سورة فصلت - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فصلت)


        


{حم} إن جعلته اسماً للسورة كان مبتدأ {تَنزِيلٌ} خبره، وإن جعلته تعديداً للحروف كان {تَنزِيل} خبراً لمبتدأ محذوف و{كِتَابٌ} بدل من {تَنزِيل} أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف أو {تنزيل} مبتدأ {مِّنَ الرحمن الرحيم} صفته {كِتَابٌ} خبره {فُصِّلَتْ ءاياته} ميزت وجعلت تفاصيل في معانٍ مختلفة من أحكام وأمثال ومواعظ ووعد ووعيد وغير ذلك {قُرْءَاناً عَرَبِيّاً} نصب على الاختصاص والمدح أي أريد بهذا الكتاب المفصل قرآناً من صفته كيت وكيت، أو على الحال أي فصلت آياته في حال كونه قرآناً عربياً {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي. و{لِقَوْمٍ} يتعلق ب {تَنزِيل} أو ب {فُصّلَتْ} أي تنزيل من الله لأجلهم أو فصلت آياته لهم، والأظهر أن يكون صفته مثل ما قبله وما بعده أي قرآناً عربياً كائناً لقوم عرب {بَشِيراً وَنَذِيراً} صفتان ل {قُرْءَاناً} {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي لا يقبلون من قولك (تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي) ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه فكأنه لم يسمعه.
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ} أغطية جمع كنان وهو الغطاء {مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} من التوحيد {وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ} ثقل يمنع من استماع قولك {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} ستر. وهذه تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن تقبل الحق واعتقاده كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها ومج إسماعهم له كأنه بها صمماً عنه، ولتباعد المذهبين والدينين كأن بينهم وماهم عليه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو عليه حجاباً ساتراً وحاجزاً منيعاً من جبل أو نحوه فلا تلاقي ولا ترائي {فاعمل} على دينك {إِنَّنَا عاملون} على ديننا أو فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك. وفائدة زيادة (من) أن الحجاب ابتداء منا وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها، ولو قيل بينا وبينك حجاب لكان المعنى أن حجاباً حاصل وسط الجهتين.
{قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} هذا جواب لقولهم {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ} ووجهه أنه قال لهم: إني لست بملك وإنما أنا بشر مثلكم وقد أوحي إلي دونكم فصحت نبوتي بالوحي إليّ وأنا بشر، وإذا صحت نبوتي وجب عليكم اتباعي وفيما يوحى إليّ أن إلهكم إله واحد {فاستقيموا إِلَيْهِ} فاستووا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة غير ذاهبين يميناً ولا شمالاً ولا ملتفتين إلى ما يسول لكم الشيطان من اتخاذ الأولياء والشفعاء {واستغفروه} من الشرك {وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة} لا يؤمنون بوجوب الزكاة ولا يعطونها أو لا يفعلون ما يكونون به أزكياء وهو الإيمان {وَهُم بالآخرة} بالبعث والثواب والعقاب {هُمْ كافرون} وإنما جعل منع الزكاة مقروناً بالكفر بالآخرة لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على استقامته وصدق نيته ونصوع طويته، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا فقرت عصبيتهم ولانت شكيمتهم، وما ارتدت بنو حنيفة إلا بمنع الزكاة، وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة وتخويف شديد من منعها {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} مقطوع.
قيل: نزلت في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون.
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ} الأحد والاثنين تعليماً للأناة ولو أراد أن يخلقها في لحظة لفعل {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً} شركاء وأشباهاً {ذلك} الذي خلق ما سبق {رَبُّ العالمين} خالق جميع الموجودات وسيدها ومربيها {وَجَعَلَ فِيهَا} في الأرض {رَوَاسِىَ} جبالاً ثوابت {مِّن فَوْقِهَا} إنما اختار إرساءها فوق الأرض لتكون منافع الجبال ظاهرة لطالبيها، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال كلها مفتقرة إلى ممسك وهو الله عز وجل: {وبارك} بالماء والزرع والشجر والثمر {فِيهَا} وفي الأرض. وقيل: وبارك فيها وأكثر خيرها {وَقَدَّرَ فِيهَآ أقواتها} أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه {وقسم فيها أقواتها} {فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} في تتمة أربعة أيام يريد بالتتمة اليومين تقول: سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة وإلى الكوفة في خمسة عشر أي تتمة خمسة عشر ولا بد من هذا التقدير، لأنه لو أجرى على الظاهر لكانت ثمانية أيام لأنه قال: {خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ} ثم قال: {وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} ثم قال: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات فِى يَوْمَيْنِ} فيكون خلاف قوله {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [ق: 38] في موضع آخر، وفي الحديث: «إن الله تعالى خلق الأرض يوم الأحد والإثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والعمران والخراب فتلك أربعة أيام، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة، وخلق آدم عليه السلام في آخر ساعة من يوم الجمعة» قيل: هي الساعة التي تقوم فيها القيامة {سَوَآءً} {سَوَآءٍ}: يعقوب صفة للأيام أي في أربعة أيام مستويات تامات، {سَوَآء} بالرفع: يزيد أي هي سواء، غيرهما {سَوَآء} على المصدر أي استوت سواء أي استواء أو على الحال {لِّلسَّائِلِينَ} متعلق ب {قدر} أي قدر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها والمحتاجين إليها، لأن كلاً يطلب القوت ويسأله، أو بمحذوف كأنه قيل: هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها.


{ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} هو مجاز عن إيجاد الله تعالى السماء على ما أراد، تقول العرب: فعل فلان كذا. ثم استوى إلى عمل كذا يريدون أنه أكمل الأول وابتدأ الثاني، ويفهم منه أن خلق السماء كان بعد خلق الأرض وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما، وعنه أنه قال: أول ما خلق الله تعالى جوهرة طولها وعرضها مسيرة ألف سنة في مسيرة عشرة آلاف سنة فنظر إليها بالهيبة فذابت واضطربت، ثم ثار منها دخان بتسليط النار عليها فارتفع واجتمع زبد فقام فوق الماء فجعل الزبد أرضاً والدخان سماء. ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما أنه أراد أن يكونهما فلم يمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع. وإنما ذكر الأرض مع السماء في الأمر بالإتيان والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين لأنه قد خلق جرم الأرض أولاً غير مدحوة ثم دحاها بعد خلق السماء كما قال: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} [النازعات: 30] فالمعنى أن ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف، ائتي يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك وائتي يا سماء مقبية سقفاً لهم. ومعنى الإتيان الحصول والوقوع كما تقول أتى عمله مرضياً، وقوله {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} لبيان تأثير قدرته فيهما وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال كما تقول لمن تحت يدك. لتفعلن هذا شئت أو أبيت، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً. وانتصابهما على الحال بمعنى طائعتين أو مكرهتين. وإنما لم يقل طائعتين على اللفظ أو طائعات على المعنى لأنهما سموات وأرضون لأنهن لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصفن بالطوع والكره. قيل: طائعين في موضع طائعات كقوله {ساجدين} [يوسف: 4]. {فَقَضَاهُنَّ} فأحكم خلقهن. قال:
وعليهما مسرودتان قضاهما ***
والضمير يرجع إلى السماء لأن السماء للجنس، ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسراً بقوله {سَبْعَ سماوات}.
والفرق بين النصبين في {سَبْعَ سموات} أن الأول على الحال والثاني على التمييز {فِى يَوْمَيْنِ} في يوم الخميس والجمعة {وأوحى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا} ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيران وغير ذلك {وَزَيَّنَّآ السمآء الدنيا} القريبة من الأرض {بمصابيح} بكواكب {وَحِفْظاً} وحفظناها من المسترقة بالكواكب حفظاً {ذلك تَقْدِيرُ العزيز} الغالب غير المغلوب {العليم} بمواقع الأمور.
{فَإِنْ أَعْرَضُواْ} عن الإيمان بعد هذا البيان {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ} خوفتكم {صاعقة} عذاباً شديد الوقع كأنه صاعقة وأصلها رعد معه نار {مِّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَآءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أي أتوهم من كل جانب وعملوا فيهم كل حيلة فلم يروا منهم إلا الإعراض.
وعن الحسن: أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة {أَن} بمعنى (أي) أو مخففة من الثقيلة أصله بأنه {لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله قَالُواْ} أي القوم {لَوْ شَآءَ رَبُّنَا} إرسال الرسل فمفعول {شَاء} محذوف {لأَنزَلَ ملائكة فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون} معناه فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة فإنا لا نؤمن بكم وبما جئتم به، وقوله {أُرْسِلْتُمْ بِهِ} ليس بإقرار بالإرسال وإنما هو على كلام الرسل وفيه تهكم كما قال فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] وقولهم: {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون}. خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء الذين دعوا إلى الإيمان بهم. رُوي أن قريشاً بعثوا عتبة بن ربيعة وكان أحسنهم حديثاً ليكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وينظر ما يريد، فأتاه وهو في الحطيم فلم يسأل شيئاً إلا أجابه ثم قرأ عليه السلام السورة إلى قوله {مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ} فناشده بالرحم وأمسك على فيه ووثب مخافة أن يصب عليهم العذاب فأخبرهم به وقال: لقد عرفت السحر والشعر فوالله ما هو بساحر ولا بشاعر فقالوا: لقد صبأت أما فهمت منه كلمة؟ فقال: لا ولم أهتد إلى جوابه. فقال عثمان بن مظعون: ذلك والله لتعلموا أنه من رب العالمين.
ثم بين ما ذكر من صاعقة عاد وثمود فقال: {فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِى الأرض بِغَيْرِ الحق} أي تعظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظيم وهو القوة وعظم الأجرام، أو استولوا على الأرض بغير استحقاق للولاية {وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم، وبلغ قوتهم أن الرجل كان يقتلع الصخرة من الجبل بيده {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} أولم يعلموا علماً يقوم مقام العيان {أَنَّ الله الذى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أوسع منهم قدرة لأنه قادر على كل شيء وهم قادرون على بعض الأشياء بإقداره {وَكَانُواْ بئاياتنا يَجْحَدُونَ} معطوف على {فاستكبروا} أي كانوا يعرفون أنها حق ولكنهم جحدوها كما يجحد المودع الوديعة {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} عاصفة تصرصر أي تصوت في هبوبها من الصرير، أو باردة تحرق بشدة بردها تكرير لبناء الصر وهو البرد قيل إنها الدبور {فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} مشئؤومات عليهم. {نَّحِسَاتٍ} مكي وبصري ونافع. ونُحِس نحساً نقيض سعد سعداً وهو نحس، وأما نحس فإما مخفف نحس أو صفة على فعل أو وصف بمصدر وكانت من الأربعاء في آخر شوال إلى الأربعاء، وما عذب قوم إلا في الأربعاء. {لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا} أضاف العذاب إلى الخزي وهو الذل على أنه وصف للعذاب كأنه قال عذاب خزي كما تقول فعل السوء تريد الفعل السيء، ويدل عليه قوله {وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى} وهو من الإسناد المجازي، ووصف العذاب بالخزي أبلغ من وصفهم به فشتان ما بين قوليك (هو شاعر) و(له شعر شاعر). {وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} من الأصنام التي عبدوها على رجاء النصر لهم.


{وَأَمَّا ثَمُودُ} بالرفع على الابتداء وهو الفصيح لوقوعه بعد حرف الابتداء والخبر {فهديناهم} وبالنصب المفضّل بإضمار فعل يفسره {فهديناهم} أي بينا لهم الرشد {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} فاختاروا الكفر على الإيمان {فَأَخَذَتْهُمْ صاعقة العذاب} داهية العذاب {الهون} الهوان وصف به العذاب مبالغة أو أبدله منه {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بكسبهم وهو شركهم ومعاصيهم، وقال الشيخ أبو منصور: يحتمل ما ذكر من الهداية التبيين كما بينا، ويحتمل خلق الاهتداء فيهم فصاروا مهتدين ثم كفروا بعد ذلك وعقروا الناقة، لأن الهدى المضاف إلى الخالق يكون بمعنى البيان والتوفيق وخلق فعل الاهتداء، فأما الهدى المضاف إلى الخلق يكون بمعنى البيان لا غير. وقال صاحب الكشاف فيه: فإن قلت: أليس معنى قولك هديته جعلت فيه الهدى والدليل عليه قولك هديته فاهتدى بمعنى تحصيل البغية وحصولها كما تقول: ردعته فارتدع، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ قلت: للدلالة على أنه مكنهم فأزاح عللهم ولم يبق لهم عذر فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها وإنما تمحل بهذا لأنه لا يتمكن من أن يفسره بخلق الاهتداء لأنه يخالف مذهبه الفاسد {وَنَجَّيْنَا الذين ءَامَنُواْ} أي اختاروا الهدى على العمى من تلك الصاعقة {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} اختيار العمى على الهدى.
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار} أي الكفار من الأولين والآخرين. {نَحْشُرُ أَعْدَاءَ} نافع ويعقوب {فَهُمْ يُوزَعُونَ} يحبس أولهم على آخرهم أي يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم، وهي عبارة عن كثرة أهل النار وأصله من وزعته أي كففته {حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا} صاروا بحضرتها و{ما} مزيدة للتأكيد ومعنى التأكيد أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم ولا وجه لأن يخلو منها {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} شهادة الجلود بملامسة الحرام وقيل: وهي كناية عن الفروج {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} لما تعاظمهم من شهادتها عليهم {قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذى أَنطَقَ كُلَّ شَئ} من الحيوان والمعنى أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وهو قادر على إنشائكم أول مرة وعلى إعادتكم ورجوعكم إلى جزائه {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلآ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ} أي أنكم كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش، وما كان استتاركم ذلك خيفة أن يشهد عليكم جوارحكم لأنكم كنتم غير عالمين بشهادتها عليكم بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلاً {ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} ولكنكم إنما استترتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما كنتم تعملون وهو الخفيات من أعمالكم.
{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} وذلك الظن هو الذي أهلككم، و{ذلكم} مبتدأ و{ظَنُّكُمُ} خبر و{الذى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ} صفته و{أَرْدَاكُمْ} خبر ثانٍ أو {ظَنُّكُمُ} بدل من {ذلكم} و{أَرْدَاكُمْ} الخبر {فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ} أي فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر ولم ينفكوا به من الثواء في النار {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} وإن يطلبوا الرضا فما هم من المرضيّين، أو إن يسألوا العتبى وهي الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعاً مما هم فيه لم يعتبوا لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ} أي قدرنا لمشركي مكة، يقال: هذان ثوبان قيضان أي مثلان والمقايضة المعاوضة، وقيل: سلطنا عليهم {قُرَنَآءَ} أخداناً من الشياطين جمع قرين كقوله {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي ما تقدم من أعمالهم وما هم عازمون عليها، أو ما بين أيديهم من أمر الدنيا واتباع الشهوات وما خلفهم من أمر العاقبة وأن لا بعث ولا حساب {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول} كلمة العذاب {فِى أُمَمٍ} في جملة أمم ومحله النصب على الحال من الضمير في {عَلَيْهِمْ} أي حق عليهم القول كائنين في جملة أمم {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ} قبل أهل مكة {مِّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين} هو تعليل لاستحقاقهم العذاب والضمير لهم وللأمم.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان} إذًّا قريء {والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} وعارضوه بكلام غير مفهوم حتى تشوشوا عليه وتغلبوا على قراءته واللغو الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته {فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً} يجوز أن يريد بالذين كفروا هؤلاء اللاغين والآمرين لهم باللغو خاصة، ولكن يذكر الذين كفروا عامة لينطووا تحت ذكرهم {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي أعظم عقوبة على أسوأ أعمالهم وهو الكفر.
{ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله} ذلك إشارة إلى الأسوأ ويجب أن يكون التقدير أسوأ جزاء الذي كانوا يعملون حتى تستقيم هذه الإشارة {النار} عطف بيان للجزاء أو خبر مبتدأ محذوف {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} أي النار في نفسها دار الخلد كما تقول: لك في هذه الدار دار السرور وأنت تعني الدار بعينها {جَزَآءً} أي جوزوا بذلك جزاء {بِمَا كَانُوا بئاياتنا يَجْحَدُونَ وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا} وبسكون الراء لثقل الكسرة كما قالوا في فخْذِ فَخْذ: مكي وشامي وأبو بكر. وبالاختلاس: أبوعمرو {اللذين أضلانا} أي الشيطانين اللذين أضلانا {مِّنَ الجن والإنس} لأن الشيطان على ضربين جني وإنسي، قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شياطين الإنس والجن} {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} في النار جزاء إضلالهم إيانا.
{إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله} أي نطقوا بالتوحيد {ثُمَّ استقاموا} ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضيانه، وعن الصديق رضي الله عنه: استقاموا فعلاً كما استقاموا قولاً: وعنه أنه تلاها ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا. قال: حملتم الأمر على أشده. قالوا: فما تقول؟ قال: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وعن عمر رضي الله عنه: لم يروغوا روغان الثعالب أي لم ينافقوا. وعن عثمان رضي الله عنه: أخلصوا العمل. وعن علي رضي الله عنه: أدوا الفرائض. وعن الفضيل: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية. وقيل: حقيقة الاستقامة القرار بعد الإقرار لا الفرار بعد الإقرار {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة} عند الموت {أن} بمعنى (أي) أو مخففة من الثقيلة وأصله بأنه {لاَ تَخَافُواْ} والهاء ضمير الشأن أي لا تخافوا ما تقدمون عليه {وَلاَ تَحْزَنُواْ} على ما خلفتهم فالخوف غم يلحق الإنسان لتوقع المكروه، والحزن غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار والمعنى أن الله كتب لكم الأمن من كل غم فلن تذوقوه {وَأَبْشِرُواْ بالجنة التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} في الدنيا، وقال محمد بن علي الترمذي: تتنزل عليهم ملائكة الرحمن عند مفارقة الأرواح الأبدان أن لا تخافوا سلب الإيمان، ولا تحزنوا على ما كان من العصيان، وأبشروا بدخول الجنان التي كنتم توعدون في سالف الزمان {نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الحياة الدنيا وَفِى الآخرة} كما أن الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} من النعيم {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} تتمنون {نُزُلاً} هو رزق نزيل وهو الضيف وانتصابه على الحال من الهاء المحذوفة أو من (ما) {مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} نعت له.

1 | 2